سورة الأنبياء - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأنبياء)


        


قلت: {لاعبين}: حال من فاعل خلق، و {إن كنا}: شرط حُذف جوابه، أي: إن كنا فاعلين اتخذناه من لّدُنا، وقيل: نافية.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {وما خلقنا السماءَ والأرضَ وما بينهما} من المخلوقات التي لا تُحصى أجناسها، ولا تُعد أفرادها، ولا تُحصر أنواعها وآحادها، على هذا النمط البديع والأسلوب الغريب، {لاعبين}؛ خالية عن الحِكم والمصالح، بل لحِكَم بديعة ومصالح عديدة، دينية تَقْضي بسعادة الأبد أو بشقاوته، ودنيوية لا تُعد ولا تُحصى، وهذا كقوله: {وَمَا خَلَقْنَا السمآء والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً} [ص: 27]، فالمراد من الآية: إشارة إجمالية إلى أن تكوين العالم، وإبداع بني آدم، مؤسس على قواعد الحِكَم البالغة، المستتبعة للغايات الجليلة، وتنبيه على أن ما حكي من العذاب الهائل، والعقاب النازل بأهل القُرى، من مقتضيات تلك الحِكم، ومتفرع عليها حسبما اقتضته أعمالهم. وإنما فعل ذلك؛ عدلاً منه، ومجازاة على أعمالهم، وأن المخاطبين المتقدمين- وهم قريش- على آثارهم؛ لأن لهم ذنوبًا مثل ذنوبهم. وإنما عبَّر عن نفي الحكمة باللعب، حيث قال: {لاعبين}؛ لبيان كمال تنزهه تعالى عن الخلق الخاليِ عن الحكمة، بتصويره بصورة ما لا يرتاب أحد في استحالة صدوره منه سبحانه، وهو اللهو واللعب، بل إنما خلقناهما، وما بينهما؛ لتكون مبدأ الوجود الإنساني وسببًا لمعاشه، ودليلاً يقوده إلى تحصيل معرفتنا، التي هي الغاية القصوى والسعادة العظمى.
ثم قرر انتفاء اللعب واللهو عنه، فقال: {لو أردنا أن نتخذ لهوًا} أي: ما يلهى به ويلعَب، {لاتَّخذناه من لدُنَّا} أي: من أنفسنا؛ لعلمنا بحقائق الأشياء، واستغنائنا عن جلب المصالح ودرء المفاسد. والمعنى: لو أردنا أن نخلق شيئًا، لا لتحصيل مصلحة لكم، ولا لدرء مفسدة عنكم، لفعلنا ذلك في أنفسنا؛ بأن نخلق عوالم ومظاهر عارية عن الحكمة والمصلحة؛ لأنا أحق منكم بالاستغناء عما يجلب المصلحة ويدرأ المفسدة، لكن من عادتنا ربط الأسباب بمسبباتها، وأنا لم نخلق شيئًا عبثًا، بل خلقنا كل نوع من النبات والحيوانات والجمادات؛ لمصلحة ومنفعة، عَلِمها، من عَلِمها وجَهِلَها من جَهِلَها، فحصل من هذا نفي التحسين والتقبيح؛ عقلاً، بهذه الشرطية، وإثباته سمعًا.
أو: {لاتخذناه من لدُنَّا} مما يليق بشأننا من المجردات، لا من الأجسام المرفوعة والأجرام الموضوعة، كعادة الجبابرة؛ مِنْ رفع العروش وتحسينها، وتمهيد الفرش وتزيينها، لأغراض عِراض، لكن يستحيل إرادتنا لذلك؛ لمنافاته للحكمة الإلهية المنزهة عن الأغراض. اهـ. من أبي السعود، وأصله للزمخشري. وفيه تكلف.
وسأل طاوسُ ومجاهدُ الحسنَ عن هذه الآية؟ فقال: اللهو: المرأة. وقال ابن عباس: الولد. ومعنى {لاتخذناه من لدُنَّا}: بحيث لا يطلعون عليه، وما اتخذنا نساءًا وولدًا من أهل الأرض. نزلت في الذين قالوا: اتخذ الله ولدًا.
وتكون الآية، حينئذ تتميمًا لِما قبلها، أي: ليس اللعب واللهو من شأننا، إذ لو أردنا أن نتخذ لهوًا لاتخذناه من لدنا. قال شيخ شيوخنا، سيدي عبد الرحمن الفاسي: حمل الآية على الزوجة غير مفيد، إلا أن يراد بذلك مجرد الرحمة والشفقة، مما يمكن عقلاً، فيصح دخول النفي الشرعي عليه. انظر ابن عرفة، فقد جوّز، عقلاً، اتخاذه على معنى الرحمة. وكذا ابن عطية في آية الزمر. ومنع ذلك القشيري. قلت: وكأنه لِما يشير إليه قوله تعالى: {هُوَ الله الواحد القهار} [الزُّمَر: 4]، فإن القهر لا يناسب التبني بوجه، وقد يقال: إنه مانع سمعي شرعي، لا عقلي، فلا يخالف ما قاله ابن عرفة ولا ابن عطية. وفيه نظر؛ لأنه يُؤدي إلى تعطيل اسمه القهار ونحوه، وهو محال، والله أعلم. اهـ.
قلت: قد حمل النسفي الآية على الولد، فقال: {لو أردنا أن نتخذ لهوًا} أي: ولدًا، أو امرأة، رد على من قال عيسى ابنه، ومريم صاحبته، {لاتخذناه من لدُنَّا} من الولدان أو الحور، {إِن كنا فاعلين} أي: إن كنا ممن يفعل ذلك، ولسنا ممن يفعله لاستحالته في حقنا. اهـ. قلت: والذي تكلف الحمل الأول رأى أن حمله على الولد يقتضي جواز الاتخاذ عقلاً؛ وإنما منعه عدم الإرادة. وأجاب ابن عرفة: بأن يحمل الاتخاذ على معنى الرحمة، لا على حقيقة البنوة. قلت: من خاض بحار التوحيد الخاص وحاز مقام الجمع، لا يتوقف في مثل هذا؛ إذ تجليات الحق لا تنحصر، لكن لم يوجد منها، ولم تتعلق إرادته إلا بما هو كمال في حقه تعالى في باب القدرة، وأما باب الحكمة، فهي رداء لمحل النقائص، فافهم، وأصحب أهلَ الجمع حتى يفهموك ما ذكرتُ لك، والسلام.
ثم قال تعالى: {بل نقذفُ بالحق على الباطل} أي: نرمي بالحق، الذي هو الجد، على الباطل، الذي من جملته اللهو، وهو إضراب عن اتخاذ الولد، بل عن إرادته، كأنه قيل: لكنا لا نريده، بل شأننا أن نقذف بالحق على الباطل {فيدْمَغُه}: فيمحقه بالكلية، كما فعلنا بأهل القُرى المحكية وأمثالهم، وقد استعير، لإيراد الحق على الباطل، القذف، الذي هو الرمي الشديد، وللباطل الدمغ، الذي هو تشتيت الدماغ وتزهيق الروح، فكأنَّ الباطل حيوان له دماغ، فإذا تشتت دماغه مات واضمحل، {فإِذا هو زاهق} أي: فإذا الباطل ذاهب بالكلية، متلاش عن أصله. وفي {إذا} الفجائية والجملة الاسمية من الدلالة على كمال السُرعة في الذهاب والبطلان ما لا يخفى.
ثم ردَّ على أهل الباطل فقال: {ولكم الويلُ مما تصفون} أي: وقد استقر لكم الويل والهلاك؛ من أجل ما تصفونه، سبحانه، بما لا يليق بشأنه الجليل، من الولد والزوجة، وغير ذلك مما هو باطل. وهو وعيد لقريش ومن دان دينهم، بأنَّ لهم أيضًا مثل ما لأولئك القرى المتقدمة من الهلاك، إن لم ينزجروا. والله تعالى أعلم.
الإشارة: ما نصبت لك الكائنات لتراها كائنات، بل لتراها أنوارًا وتجليات، الأكوان ثابتة بإثباته، ممحوة بأحدية ذاته، فالغير والسِّوى عند أهل الحق باطل، والباطل لا يثبت مع الحق. قال تعالى: {بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق}. قال القشيري: نُدْخِلُ نهارَ التحقيق على ليالي الأوهام، أي: فتمحى، وتبقى شمس الأحدية ساطعة. اهـ. وبالله التوفيق.


يقول الحقّ جلّ جلاله: {وله من في السماوات والأرض} أي له جميع المخلوقات، خلقًا ومِلكًا، وتدبيرًا وتصرفًا، وإحياء وإِماتة، وتعذيبًا وإثابة، من غير أن يكون لأحد في ذلك دخل، لا استقلالاً ولا استتباعًا، ولا فرق بين أهل العالم العلوي والسفلي، {ومَنْ عنده} وهم الملائكة- عليهم السلام- عبَّر عنهم بذلك إثر ما عبَّر عنهم بمن في السماوات؛ تنزيلاً لهم- لكرامتهم عليه، وزلفاهم عنده- منزلة المقربين عند الملك، وهو مبتدأ وخبره: {لا يستكبرون عن عبادته} أي: لا يتعاظمون عنها، ولا يَعُدون أنفسهم كبراء، {ولا يستحسرون} أي: لا يكِلُّون ولا يَعْيون، {يُسبِّحُون الليلَ والنهار} أي: ينزهونه في جميع الأوقات، ويُعظمونه ويمجدونه دائمًا. وهو استئناف بياني، كأنه قيل: ماذا يصنعون في عبادتهم، أو كيف يعبدون؟ فقال: يُسبحون.. الخ. {لا يَفْتَرُون} أي: لا يتخلل تسبيحَهم فترة أصلاً، ولا شغل آخر.
ولمّا برهن على وحدانيته تعالى في ملكه بأنه تعالى خلق جميع المخلوقات على منهاج الحكمة، وأنهم قاطبة تحت ملكه وقهره، وأنَّ عباده مذعنون لطاعته، ومثابرون على عبادته، ومنزهون له عن كل ما لا يليق بشأنه، أنكر على من أشرك معه بعد هذا البيان، فقال: {أم اتخذوا آلهة} يعبدونها {من الأرض} أي: اتخذوها من جنس الأرض، أحجارًا وخشبًا، {هم يُنْشِرُون} أي: يبعثون الموتى. وهذا هو الذي يدور عليه الإنكار والتجهيل والتشنيع، لا نفس الاتخاذ، فإنه واقع لا محالة، أي: بل اتخذوا آلهة من الأرض، هم مع حقارتهم، ينشرون الموتى، كلا... فإن ما اتخذوها آلهة بمعزل من ذلك، وهم، وإن لم يقولوا بذلك صريحًا، لكنهم حيث ادعوا لها الألوهية، فكأنهم ادعوا لها الإنشار، ضرورة؛ لأنه من خصائص الإلهية، ومعنى التخصيص في تقديم الضمير في: {هم يُنشِرون}: التنبيه على كمال مباينة حالهم للإنشار، الموجبة لمزيد الإنكار، كما في قوله تعالى: {أَفِي الله شَكٌّ} [إبراهيم: 10]. وفي قوله تعالى: {أبالله وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ} [التّوبَة: 65]، فإنَّ تقديم الجار والمجرور؛ للتنبيه على كمال مباينة أمره تعالى لأن يشك فيه ويستهزأ به.
ثم أبطل الاشتراك في الألوهية، فقال: {لو كان فيهما آلهةً إِلا الله} أي: لو كان في السماوات والأرض آلهة غير الله، كما هو اعتقادهم الباطل، {لفسدَتَا} أي: لفسد نظامهما بما فيهما، لوجود التمانع، كعادة الملوك، أو لبطلتا بما فيهما، ولم يوجد شيء منهما؛ للزوم العجز لهما، بيان ذلك: أن الألوهية مستلزمة للقدرة على الاسْتِبْدَادِ بالتصرف فيهما على الإطلاق، تغييرًا وبديلاً، وإيجادًا وإعدامًا، وإحياء وإماتة، فبقاؤهما على ما هما عليه من غير فساد، إما بتأثير كل منها، وهو محال؛ لاستحالة وقوع الأثر الواحد بين مؤثرين، وإما بتأثير واحد منها، فالباقي بمعزل عن الإلهية، والمسألة مقررة في علم الكلام.
و{إلا}: صفة لآلهة، كما يُوصف بغير، ولمَّا كانت حرفًا، ظهر إعرابها في اسم الجلالة، ولا يصح رفعه على البدل؛ لعدم وجود النفي. ثم قال تعالى: {فسبحان الله} أي: فسبحوا سُبحان الله اللائق به، وننزهوه عما لا يليق به من الأمور، التي من جملتها: أن يكون له شريك في الألوهية. وإيراد الجلالة في موضع الإضمار، حيث لم يقل فسبحانه؛ للإشعار بعلية الحكم، فإنَّ الألوهية مناط لجميع صفات كماله، التي من جملتها: تنزهه تعالى عما لا يليق به، ولتربية المهابة وإدخال الروعة. ثم وصفه بقوله: {ربِّ العرش}، وخصه بالذكر، مع كونه رب كل شيء؛ لعظم شأنه؛ لأنَّ الأكوان في جوفه كلا شيء، أي: تنزيهًا له عما يصفونه عن أن يكون من دونه آلهة.
ثم بيَّن قوة عظمته وعز سلطانه القاهر، فقال: {لا يُسأل عما يَفعل} أي: لا يمكن لأحد من مخلوقاته أن يناقشه أو يسأله عما يفعل؛ هيبةً وإجلالاً، {وهم يُسألون} أي: وعباده يُسألون عما يفعلون، نقيرًا وقطميرًا؛ لأنهم مملوكون له تعالى، مستعبدون، ففيه وعيد للكفرة، فالآية تتميم لقوله: {لاعبين}، بل خلقنا الأشياء كلها لحكمة، فمنها ما أدركتم حكمته، ومنها ما غاب عنكم، فكِلُوا أمره إلى الله، ولا تسألوه عما يفعل، فإنه لا يُسأل عن فعله، وأنتم تُسألون.
ثم قال تعالى: {أم اتخذوا من دونه آلهة}، هو إضراب وانتقال من إظهار بطلان كون ما اتخذوه آلهة؛ بإظهار خلوها من خصائص الألوهية، التي من جملتها إنشار الموتى، وإقامة البرهان القاطع على استحالة تعد الإله، إلى إظهار بُطلان اتخاذهم تلك الآلهة، مع عرائها عن تلك الخصائص، وتبكيتهم بإلجائهم إلى إقامة البرهان على دعواهم الباطلة. والهمزة: لإنكار ما اتخذوه واستقباحه، أي: بل اتخذوا من دونه- أي: متجاوزين إياه تعالى، مع ظهور شؤونه الجليلة الموجبة لتفرده بالألوهية- آلهة، مع ظهور خلوهم عن خصوص الإلهية بالكلية.
{قلْ} لهم، بطريق التبكيت: {هاتُوا برهانكم} على ما تَدَّعونَه، من جهة العقل والنقل؛ فإنه لا صحة لقول لا دليل عليه في الأمور الدينية، لا سيما في هذا الأمر الخطير، فإن بُهتوا فقل لهم: {هذا ذكر مَنْ معي وذكر مَنْ قبلي} أي: بهذا نطقت الكتب السماوية قاطبة، وشهدت به سُنَّة الرسل المتقدمة كافة. فهذا الوحي الوارد في شأن التوحيد المتضمن للبرهان القاطع {ذُكر من معي} من أمتي، أي: عظتهم، {وذكرُ مَن قبلي} من الأمم السالفة، أي: بهذا أمَرنا ربُنا ووعظنا، وبه أمر مَنْ قبلنا، يعني: انفراده سبحانه بالألوهية واختصاصه بها.
وقيل: المعنى: هذا كتاب أُنزل على أمتي، وهذا كتاب أُنزل على أمم الأنبياء- عليهم السلام- قبلي، فانظروا: هل في واحد منها غير الأمر بالتوحيد والنهي عن الإشراك، ففيه تبكيت لهم.
{بل أكثرهم لا يعلمون الحقَّ} أي: لا يفهمونه، ولا يميزون بينه وبين الباطل، فهو إضراب وانتقال من تبكيتهم بمطالبة البرهان، إلى بيان أنه لا ينجع فيهم المحاججة؛ لجهلهم وعنادهم، ولذلك قال: {فهم معرضون} أي: فهم لأجل جهلهم وعتوهم مستمرون على الإعراض عن التوحيد واتباع الرسول، لا يَرْعَوُونَ عما هم عليه من الغي والضلال، وإن كررت عليهم البينات والحجج. أو معرضون عما ألقى عليهم من البراهين العقلية والنقلية؛ لانهماكهم.
{وما أرسلنا مِن قَبْلِكَ من رسولٍ إِلا يوحى إِليه أنه لا إِله إِلا أنا فاعبدون}، هذا مقرر لما قبله؛ من كون التوحيد مما نطقت به الكتب الإلهية، وأجمعت عليه الرسل- عليهم السلام- قاطبة. وصيغة المضارع في {يوحى}؛ لحكاية الحال الماضية؛ استحضارًا لصورة الوحي العجيبة. والله تعالى أعلم.
الإشارة: قوله تعالى: {ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته}، العندية، هنا، عندية اصطفاء وتقريب، وهذه صفة العارفين المقربين، لا يستكبرون عن عبادته، بل خاضعون لجلاله وقهريته على الدوام، ولا يستحسرون: لا يملُّون منها ولا يشبعون، غير أنهم يتلونون فيها؛ من عبادة الجوارح إلى عبادة القلوب؛ كالتفكر والاعتبار، إلى عبادة الأرواح؛ كالشهود والاستبصار، إلى عبادة الأسرار؛ كالعكوف في حضرة الكريم الغفار، يُنزهون الله تعالى في جميع الأوقات، لا يفترون عن تسبيحه بالمقال أو الحال.
وقوله تعالى: {أم اتخذوا آلهة...} إلخ، تَصْدُق على من مال بقلبه إلى محبة الأكوان، أو ركن إلى الحظوظ والشهوات، وقوله تعالى: {لو كان فيهما آلهة إِلا الله لفسدتا}، اعلم أن ثلاثة اشياء إذا تعدد مدبرها فسد نظامها؛ أولها: الألوهية، فلو تعددت لفسد نظام العالم، وثانيها: السلطنة، إذا تعددت في قُطْر واحد فسدت الرعية، وثالثها: الشيخوخة، إذا تعددت على مريد واحد فسدت ترتبيته، كالطبيب إذا تعدد على مريض واحد فسد علاجه. والله تعالى أعلم.
وقوله تعالى: {لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون} قال الكواشي: يعني: لا يُسأل عن فعله وحُكمه؛ لأنه الرب، وهم يُسألون؛ لأنهم عبيده. وبعض الناس يقول: هذه آية الدبوس. قلت: وقد تقلب السين زايًا، ومعناها: أن كل ما تحكم به القدرة يجب حنو الرأس له، من غير تردد ولا سؤال. ثم قال: ولو نظر النظر الصحيح لرآها أنصف آية في كتاب الله تعالى؛ وذلك لأنه جمع فيها بين صفة الربوبية وصفة العبودية. اهـ.
وقوله: {وما أرسلنا من قبلك من رسول إِلا نُوحيَ إِليه أنه لا إله إلا أنا} يعني: أن التوحيد مما أجمعت عليه الرسل والكتب السماوية. والفناء فيه على ثلاثة أقسام: فناء في توحيد الأفعال، وهو ألا يرى الفعل إلا من الله، ويغيب عن الوسائط والأسباب، وفناء في توحيد الصفات، وهو أن يرى ألا قادر ولا سميع ولا بصير ولا متكلم إلا الله، وفناء في توحيد الذات، وهو أن يرى ألا موجود إلا الله، ذوقًا ووجدًا وعقدًا. كما قال صاحب العينية:
هُوَ الموجِدُ الأشْيَاءِ وَهْوَ وُجُودُهَا *** وعَيْنُ ذَوَاتِ الكُلِّ وَهْوَ الجَوَامِعُ
وقد أشار بعضهم إلى هذه الفناءات، فقال:
فيفنى ثم يفنى ثم يفنى *** فكان فناؤه عين البقاءِ
وهنا- أي: في مقام الفناء والبقاء- انتهت أقدام السائرين، ورسخت أسرار العارفين، مع ترقيات وكشوفات أبد الآبدين، جعلنا الله من حزبهم. آمين.


يقول الحقّ جلّ جلاله: {وقالوا اتخذ الرحمن ولدًا}، حكى الله تعالى جناية أخرى لبعض المشركين، جيء بها؛ لبيان بطلانها. والقائل بهذه المقالة حيٌ من خزاعة، وقيل: قريش وجهينة وبنو سلمة وبنو مليح، يقولون: الملائكة بنات الله، وأمهاتهم سروات الجن، تعالى الله عن قولهم علوًا كبيرًا. والتعرض لعنوان الرحمانية المنبئة عن كون جميع ما سواه مربوباً له تعالى، نعمة أو منعمًا عليه؛ لإبراز كمال شناعة مقالتهم الباطلة، {سبحانه} أي: تنزه تنزيهًا يليق بكمال ذاته، وتقدَّس عن الصاحبة والولد، {بل} هم {عبادٌ} لله تعالى، و {بل} إبطال لما قالوا، أي: ليست الملائكة كما قالوا، {بل عبادٌ مكرمون}؛ مقربون عنده، {لا يسبقونه} أي: لا يتقدمونه {بالقول}، ولا يتكلمون إلا بما يأمرهم به. وهذه صفة أخرى لهم، منبهة على كمال طاعتهم وانقيادهم لأمره تعالى، أي: لا يقولون شيئًا حتى يقوله تعالى أو يأمرهم به. وأصله: لا يسبق قولُهم قولَه، ثم أسند السبق إليهم؛ لمزيد تنزههم عن ذلك، {وهم بأمره يعملون} أي: لا يعملون إلا ما أمرهم به، وهو بيان لتبعيتهم له تعالى في الأفعال، إثر بيان تبعيتهم له في الأقوال، فإن نفي سبقيتهم له تعالى بالقول: عبارة عن تبعيتهم له تعالى فيه، كأنه قيل: هم بأمره يقولون وبأمره يعملون، لا بغير أمره أصلاً.
{يعلمُ ما بين أيديهم وما خلْفَهم} أي: ما عملوا وما هم عاملون، وقيل: ما كان قبل خلقهم وما يكون بعد خلقهم. وهو تقرير لتحقق عبوديتهم؛ لأنهم إذا كانوا مقهورين تحت علمه تعالى وإحاطته انتفت عنهم أوصاف الربوبية المكتَسبَة من مجانسة البنوة، {ولا يشفعون إِلا لمن ارتضى} أن يشفع له، مهابة منه تعالى. قال ابن عباس: هم أهل لا إله إلا الله، {وهم من خشيته} عزّ وجلّ {مشفقون}: خائفون مرتعدون. قال بعضهم: أصل الخشية: الخوف مع التعظيم، ولذلك خص بها العلماء، وأصل الإشفاق: الخوف مع الاعتناء، فعند تعديته بمن: يكون معنى الخوف فيه أظهر، وعند تعديته بعلى: ينعكس الأمر؛ فيكون معنى الإشفاق فيه أظهر.
{ومن يَقُلْ منهم} أي: من الملائكة؛ إذ الكلام فيهم، {إِني إِلهٌ من دونه} أي: متجاوزًا إياه تعالى، {فذلك} الذي فرض أنه قال ذلك فرض المحال، {نَجْزِيه جهنم} كسائر المجرمين، ولا ينفي هذا عنهم ما ذكر قبلُ من صفاتهم السنية وأفعالهم المرضية؛ لأنه فرض تقدير، وفيه من الدلالة على قوة ملكوته تعالى، وعزة جبروته، واستحالة كون الملائكة بحيث يتوهم في حقهم ما توهمه أولئك الكفرة، ما لا يخفى، {كذلك نجزي الظالمين} أي: مثل ذلك الجزاء الفظيع نجزي الظالمين، الذين يضعون الأشياء في غير مواضعها، ويتعدون أطوارهم.
قال الكواشي: هذا القول وارد على سبيل التهديد والوعيد الشديد على ارتكاب الشرك، كقوله: {وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [الأنعَام: 88]. اهـ. فالقصد: تفظيع أمر الشرك، وأنه لو صدر ممن صدر لأحبط عمله، وكان جزاء صاحبه جهنم، ومثل ذلك الجزاء نجزي الظالمين، وهم الكافرون، والحاصل: أنه على سبيل الفرض، مع علمه تعالى أنه لا يكون من الملائكة، فهو من إخباره عما لا يكون كيف يكون، لعلمه بما لا يكون، مما جاز أن يكون، كيف يكون. اهـ. من الحاشية الفاسية ببعض اختصار.
فالكاف من كذلك: في محل مصدر تشبيهي، مؤكد لمضمون ما قبله. والقصر، المستفاد من التقديم للمصدر، معتبر بالنسبة إلى النقصان دون الزيادة، أي: لا جزاء أنقص منه. والله تعالى أعلم.
الإشارة: أنوار الملكوت متدفقة من بحر أسرار الجبروت، من غير تفريع، ولا تولد، ولا علاج، ولا امتزاج، بل: كن فيكون، لكن حكمته تعالى اقتضت ترتيب الأشياء وتفريع بعضها من بعض، ليبقى السر مصونًا والكنز مدفونًا. فأسرار الذات العلية منزّهة عن اتخاذ الصاحبة والولد، بل القدرة تُبرز الأشياء بلا علاج ولا أسباب، والحكمة تسترها بوجود العلاج والأسباب. فكل ما ظهر في عالم التكوين قد عَمَّتْهُ قهرية العبودية، وانتفت عنه نسبة البُنوة لأسرار الربوبية، فأهل الملأ الأعلى عباد مكرمون، مقدّسون من دنس الحس، مستغرقون في هَيَمَان القرب والأنس، وأهل الملأ الأسفل مختلفون، فمن غلب عقلُه على شهوته، ومعناه على حسه، وروحانيته على بشريته، فهو كالملائكة أو أفضل. ومن غلبت شهوته على عقله، وحسه على معناه، وبشريته على روحانيته، كان كالبهائم أو أضل. ومن التحق بالملأ الأعلى، من الأولياء المقربين، انسحب عليه ما مدحهم به تعالى من قوله: {يُسبحون الليل والنهار لا يَفْتُرون}، ومن قوله: {لا يسبقونه بالقول}، بأن يدبروا معه شيئًا قبل ظهور تدبيره، وهم بطاعته يعملون، ولا يشفعون إلا لمن ارتضى، وهم من خشية هيبته مشفقون، {ومَن يقل منهم إني إله من دونه}؛ بأن يدّعي شيئًا من أوصاف الربوبية، كالكبرياء، والعظمة على عباده، فذلك نجزيه جهنم، وهي نار القطيعة، كذلك نجزي الظالمين. وفي الحِكَم: (منعك أن تدّعي ما ليس لك مما للمخلوقين، أفيبيح لك أن تدّعي وصفه وهو رب العالمين)؟

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8